فصل: أمانة المثلثة أكبر خيانة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*1 *الفصل الحادي عشر‏:‏ النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم أيضا‏:‏ في الطهارة والصلاة والصوم وأكل الخنـزير وتعليق الصليب‏.‏

*2*‏ (‏فصل‏)‏ فروع وشرائع دين النصارى

فهذا أصل دينهم، وأساسه الذي قام عليه، وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم، وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة؛ فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويوجب غسل الحائض‏.‏

وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وإن الإنسان يقوم من على بطن المرأة، ويبول، ويتغوط، ولا يمس ماء، ولا يستجمر، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه، ويصلي كذلك، وصلاته صحيحة تامة، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلا عن أن يفسو أو يضرط، ويقولون‏:‏ إن الصلاة بالجنابة، والبول، والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين، واليهود، وأقرب إلى مخالفة الأمتين‏.‏

ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين؛ فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته، أو صلاة أحد من الحواريين، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤنه في صلاتهم من التوراة والزبور؛ وطوائف النصارى إنما يقرؤن في صلاتهم كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، يجري مجرى النوح والأغاني‏.‏

فيقولون‏:‏ هذا قداس فلان، وهذا قداس وفلان‏.‏ ينسبونه إلى الذين وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق‏.‏ وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل‏.‏

والمسيح اختتن، وأوجب الختان، كما أوجبه موسى، وهارون، والأنبياء قبل المسيح‏.‏

والمسيح حرم الخنزير، ولعن آكله، وبالغ في ذمه؛ - والنصارى تقر بذلك - ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة؛ والنصارى تتقرب إليه بأكله‏.‏

والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط، ولا صامه في عمره مرة واحدة، ولا أحد من أصحابه، ولا صام صوم العذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرم فيه ما يحرمونه، ولا عطل السبت يوما واحداً حتى لقي الله، ولا اتخذ الأحد عيدا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجد الإنسية، فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له‏:‏ أين نأوي‏؟‏ فقال لها‏:‏ اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنزير‏.‏

فهذه حكاية النصارى عنه وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها، والمسيح سار في الذبائح، والمناكح، والطلاق، والمواريث، والحدود، سيرة الأنبياء قبله‏.‏ ‏(‏ص 142‏)‏

*2*الراهب والقسيس يغفر ذنوبهم‏!‏‏!‏ ويطيب لهم نسائهم‏!‏‏!‏‏!‏

وليس عند النصارى على من زنا أو لاط، أو سكر، حد في الدنيا أبدا، ولا عذاب في الآخرة؛ لأن القس والراهب يغفره لهم، فكلما أذنب أحدهم ذنبا أهدى للقس هدية، أو أعطاه درهما، أو غيره، ليغفر له به‏!‏‏!‏

وإذا زنت امرأة أحدهم بيّتها عند القس ليطيبها له فإذا انصرفت من عنده، وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به‏!‏‏!‏‏!‏

*2 *المسيح لم يفوض الأساقفة والبتاركة في التشريع، مناقضة النصارى ولليهود

وهم يقرون أن المسيح قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا، بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقضاً في ملكوت السماء‏)‏‏)‏، وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا، وقال لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏اعملوا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم‏)‏‏)‏ وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة‏.‏

ثم أخذ القوم في التغيير، والتبديل، والتقرب إلى الناس، بما يهوون، ومكايدة اليهود، ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح، والانسلاخ منه جملة، فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح‏:‏ أنه ساحر، مجنون، ممخرق، ولد زنية، فقالوا‏:‏هو إله تام وهو ابن الله‏!‏‏!‏

ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان‏!‏‏!‏

ورأوهم يبالغون في الطهارة، فتركوها جملة‏!‏‏!‏

ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض، وملامستها، ومخالطتها جملة، فجامعوها‏!‏‏!‏

ورأوهم يحرمون الخنزير، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم‏!‏‏!‏

ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان، فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة، وقالوا‏:‏ كل ماشئت، ودع ما شئت، لا حرج‏!‏‏!‏

ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة، فاستقبلوا هم الشرق‏!‏‏!‏

ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها، فجوزا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاؤا، ويحللوا ما شاؤا، ويحرموا ما شاؤا‏!‏‏!‏

ورأوهم يحرمون السبت، ويحفظونه، فحرموا هم الأحد، وأحلوا السبت، مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه‏!‏‏!‏

ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة ‏(‏‏(‏ملعون من تعلق بالصليب‏)‏‏)‏ والنصارى تقر بهذا، فعبدوا هم الصليب، كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا، فتعبدوا هم بأكله، وفيها الأمر ‏(‏ص 143‏)‏ بالختان، فتعبدوا هم بتركه، مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، ووصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضاً بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى‏)‏‏)‏، فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود، ومغايظتهم، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم ‏(‏‏(‏بافر كسيس‏)‏‏)‏‏:‏

أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس، وأتوا أنطاكية، وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح، فدعوهم إلى العلم بالتوراة، وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان، وإقامة السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه‏.‏

فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه‏.‏

فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم، والترخيص لهم، والاختلاط بهم، وأكل ذبائحم، والانحطاط في أهوائهم، والتخلق بأخلاقهم، وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشأوا في ذلك كتابا، فهذا أحد مجامعهم الكبار‏.‏

وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء، اجتمعوا مجمعا، وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي زمنه بدل دين المسيح، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع، وقام به وقعد‏.‏

وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقرروا تقريرا، ثم رفضوه ولم يرتضوه، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم - والنصارى يسمونهم‏:‏ الآباء - فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه‏:‏ ‏(‏‏(‏سنهودس‏)‏‏)‏ وهي ‏(‏‏(‏الأمانة‏)‏‏)‏‏!‏‏!‏

*2 *أمانة المثلثة أكبر خيانة

ولفظها‏:‏ ‏(‏‏(‏نؤمن بالله الأب الواحد، خالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد اليسوع المسيح ابن الله بكر أبيه، وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب، وقتل أيام فيلاطس الرومي‏.‏

ومات، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء‏.‏ ونؤمن بالرب الواحد، روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين‏)‏‏)‏‏.‏

فصرحوا فيها بأن المسيح رب، وأنه ابن الله ‏(‏ص 144‏)‏ وأنه بكره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع‏:‏ أي ليس بعبد مخلوق، بل هو رب خالق، وإنه إله حق، استل وولد ومن إله حق، وأنه مساو لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم وهي التي ذاقت حر المسامير، كما صرحوا به في كتبهم، وهذه ألفاظهم‏:‏

قالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏وقد قال القدوة عندنا‏:‏ إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى‏)‏‏)‏‏!‏

قالوا‏:‏ وقد وصفوا صنيع اليهود به، وهذه ألفاظهم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه‏)‏‏)‏‏!‏

قالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء، وتلده، ويؤخذ، ويصلب، ويقتل‏)‏‏)‏‏!‏

قالوا‏:‏ وأما ‏(‏‏(‏سنهودس‏)‏‏)‏ دون الأمم، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهو القدوة وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏أن مريم حبلت بالإله، وولدته، وأرضعته، وسقته، وأطعمته‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏وعندنا أن المسيح ابن آدم، وهو ربه، وخالقه، ورازقه، وابن ولده إبراهيم، وربه، وخالقه، ورازقه، وابن إسرائيل، وربه، وخالقه، ورازقه، وابن مريم وربها، وخلقها، ورازقها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا‏:‏ اليسوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم، وعاينه الناس، وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، هذه ألفاظهم، قالوا‏:‏

‏(‏‏(‏فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض، هو الذي عاينه الناس بأبصارهم، ولمسوه بأيديهم، وهو الذي حبلت به مريم، وخاطب الناس من بطنها، حيث قال للأعمى‏:‏ أنت مؤمن بالله قال الأعمى‏:‏ ومن هو حتى أومن به‏؟‏ قال‏:‏ هو المخاطب لك ابن مريم، فقال‏:‏ آمنت بك وخر ساجدا‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏فالذي حبلت به مريم هو الله، وابن الله، وكلمة الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏وهو الذي ولد، ورضع، وفطم، وأخذ، وصلب، وصفع، وكتفت يداه، وسمر، وبصق في وجهه، ومات، ودفن، وذاق ألم الصلب والتسمير، والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء و، خالقهم، وباعثهم، ومرسلهم، وناصرهم، ومؤيدهم، ورب الملائكة‏.‏ قالوا‏:‏ وليس مع أمه بمعنى الخلق، والتدبير، واللطف، والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث، ولا الحيوانات‏.‏

ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه؛ فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات، وفارق ابنها جميع الخلق، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء، وحبلت به مريم، وولدته إلها واحدا، وربا واحدا، وخالقا واحدا، لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حبل، ولا في ولادة، ولا في حال نوم، ولا مرض، ولا صلب، ولا موت، ولا دفن‏.‏

بل هو متحد به في حال الحبل، فهو في تلك الحال مسيح واحد، وخالق واحد، وإله واحد، ورب واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال ‏(‏ص 145‏)‏ الصلب والموت كذلك‏.‏

قالوا‏:‏ فمنا من يطلق في لفظه، وعبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول‏:‏ مريم حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله، ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها، ويعطي معناها وحقيقتها،

ويقول‏:‏ مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة سواه، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو‏.‏

قالوا‏:‏ فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال‏:‏ حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب الإله، ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة‏.‏

قالوا‏:‏ وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا‏:‏ حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله، ومات الإله، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول‏:‏ حل هذا كله، ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباء والقدوة قد قالوه قبلنا، وسنوه لنا، ومهدوه، وهم أعلم بالمسيح منا‏.‏

ولا تختلف النصارى من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي، ولا عبد صالح، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإنه إله تام من إله تام، وأنه خالق السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وباعثهم من القبور وحاشرهم، ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه فهو الذي يخلق، ويرزق، ويميت، ويحي، ويدبر أمر السموات والأرض، ألا تراهم يقولون‏:‏

‏(‏‏(‏في أمانتهم ابن الله وبكر أبيه وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء‏)‏‏)‏‏.‏

ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا، وترزقنا، وتخلق أولادنا، وتقيم أجسادنا، وتبعثنا، وتجازينا‏)‏‏)‏‏!‏‏!‏

*2 * المسيح يكذب دعوى ربوبيته وإلهيته، ويصرح بأنه نبي بشر

وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح، وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه، فإن المسيح قال لهم‏:‏ إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم‏)‏‏)‏ فشهد على نفسه أنه عبد لله، مربوب مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية، والحاجة، والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله‏.‏

ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد ‏(‏ص 146‏)‏ الحق، وأنك أرسلت اليسوع المسيح‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وقال لبني إسرائيل‏:‏ تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله‏)‏‏)‏‏.‏

فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل، وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي، ولكن بمشيئة من أرسلني‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء، نفسي ولكن من الذي أرسلني، والويل لي أن قلت شيئا من تلقاء نفسي، ولكن بمشيئة، هو من أرسلني‏)‏‏)‏‏.‏ وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جئت لأُخدم إنما جئت لأَخدم‏)‏‏)‏ فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي منزلة الخدام، وقال‏:‏

‏(‏‏(‏لست أدين العباد بأعمالهم، ولا أحاسبهم بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم‏)‏‏)‏‏.‏

كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى‏.‏‏.‏‏.‏ وفيه أن المسيح قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك‏)‏‏)‏ فأخبر أن الله ربه، وإنه عبده ورسوله‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏أن الله الواحد رب كل شيء‏.‏ أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق‏)‏‏)‏‏.‏

وفيه أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم‏)‏‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئاً من قبل نفسي، ولكن أتكلم، وأجيب، بما علمني ربي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله مسحني، وأرسلني، وأنا عبد الله، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص‏)‏‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله عز وجل ما أكل، ولا يأكل، وما شرب، ولا يشرب، ولم ينم، ولا ينام، ولا ولد له، ولا يلد، ولا يولد، ولا رآه أحد، ولا يراه أحد، إلا مات‏)‏‏)‏‏.‏

وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن‏:‏ ‏(‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام‏)‏ تذكيراً للنصارى بما قال لهم المسيح‏.‏

وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحي الميت‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أشكرك وأحمدك، لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت، وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية، ولحق بجلجال، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه‏)‏‏)‏ فلم يزد على دعوى النبوة‏.‏

وفي إنجيل لوقا‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه، فيكف تقتلونني‏)‏‏)‏‏.‏

وفي إنجيل‏:‏ ‏(‏‏(‏مرقس أن رجلا أقبل إلى المسيح، وقال‏:‏ أيها المعلم الصالح، أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة‏؟‏ فقال له المسيح‏:‏ لم قلت صالحا‏؟‏ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق، ولا تزن، ولا تشهد بالزور، ولا تخن، وأكرم أباك وأمك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك، واجعل لي سبيلا أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة، ‏(‏ص 147‏)‏ وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا، وبالمسيح الذي بعثت، وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني‏)‏‏)‏ فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث‏.‏

وفي إنجيل متى‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده، ولا تدعوا معلمين، فإنما معلمكم المسيح وحده‏)‏‏)‏‏.‏

والأب في لغتهم‏:‏ الرب المربي، أي لا تقولوا إلهكم، وربكم في الأرض، ولكنه في السماء‏.‏

ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه، وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء‏.‏

وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته‏)‏‏)‏‏.‏

وفي إنجيل يوحنا إن المسيح أعلن صوته في البيت، وقال لليهود‏:‏ ‏(‏‏(‏قد عرفتموني وموضعي، ولم آت من ذاتي، ولكن بعثني الحق، وأنتم تجهلونه، فإن قلت‏:‏ إني أجهله، كنت كاذبا مثلكم، وأنا أعلم وأنتم تجهلونه، إني منه وهو بعثني‏)‏‏)‏ فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء، فأمسكت المثلثة قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إني منه‏)‏‏)‏ وقالوا‏:‏ إله حق من إله حق‏.‏

وفي القرآن‏:‏ ‏(‏رسول من الله‏)‏‏.‏

وقال هود‏:‏ ‏(‏ولكني رسول من رب العالمين‏)

وكذلك قال صالح‏!‏ ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه، ويردون المحكم‏.‏

وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود‏.‏ وقد قالوا له‏:‏ ‏(‏نحن أبناء الله‏)‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان الله أباكم لأطعتموني، لأني رسول منه، خرجت مقبلا، ولم أقبل من ذاتي، ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي، وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان، وتريدون إتمام شهواته‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الإنجيل‏:‏ ‏(‏‏(‏أن اليهود أحاطت به، وقالت له‏:‏ إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمنا بذلك‏)‏‏)‏ ولم تقل إن كنت الله، أو ابن الله، فإنه لم يدع ذلك و لا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه‏.‏

وفي الإنجيل أيضا‏:‏ ‏(‏‏(‏أن اليهود أرادوا القبض عليه، فبعثوا لذلك أعوان، وإن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم‏:‏ لِم لم تأخذوه‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما سمعنا آدميا أنصف منه، فقالت اليهود‏:‏ وأنتم أيضا مخدوعون، أترون أنه آمن به أحد من القواد، أو من رؤساء أهل الكتب‏؟‏

فقال لهم بعض أكابرهم‏:‏ أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه‏؟‏ فقالوا له‏:‏اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي‏)‏‏)‏‏.‏

فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه أنه نبي، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له، وأنكرته عليه، وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته؛ لأن كذبه كان يعلم بالحس، والعقل، والفطرة، واتفاق الأنبياء‏.‏

ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه - أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول، والنجو، ‏(‏ص 148‏)‏ والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك، لا يخرج صبيا صغيرا، يرضع، ويبكي، وإذ قد فعل ذلك لا يأكل مع الناس، ويشرب معهم، وينام، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول، ولا يتغوط، ويمتنع من الخرأة، إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار، لنقصه، وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته، ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة‏.‏

تعالى الله رب العالمين‏.‏‏.‏‏.‏ وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وينام‏.‏